شارع الأعشى.. الإغراق في المحلية ينتصر
أتابع بشغف يقترب من الدراسة أغلب الأعمال الدرامية والسينمائية المحولة عن روايات أدبية في محاولة للمقارنة بين فنيات الرواية وآليات نقلها إلى الشاشة حيث قاعدة جماهيرية أكبر، هذا بخلاف اختياري لعمل درامي غير مصري أتابعه كل عام في الموسم الرمضاني كي تتنوع مكتبتي الدرامية بين الكويتي والسوري والسعودي وخلافه، لكنني لم أتوقع أن أشاهد على الشاشة عملًا تليفزيونيًا سعوديًا يتناول حادث الهجوم المسلح على الحرم المكي واحتلاله لعدة أيام بعدما ادّعى الإرهابي "جهيمان العتيبي" أن نسيبه "محمد عبد الله" هو المهدي المنتظر ثم اقتاد جهيمان العتيبي جماعة إرهابية مُسلَّحة تسللت إلى باحة الحرم المكي في واقعة شهيرة تابعها العالم أجمع وبخاصة الدول الإسلامية واستدعت تلك الواقعة تدخلًا عملياتيًا واسع النطاق لتحرير الحرم المكي من الجماعة الإرهابية المختلة.
"شارع الأعشى" مسلسل سعودي مأخوذ عن رواية تحمل اسم "غراميات شارع الأعشى" للكاتبة "بدرية البشر" وحاضر بقوة في هذا الموسم الرمضاني، ربما لا يحظى بدوائر الجدل التي تتنازعها الأعمال الأخرى وربما لا يتماس مع قضايا معاصرة، لكنني على ثقة أنه حين يهدأ السباق الرمضاني ويُعاد النظر إلى الأعمال المُقدَّمة بإنصاف سيتصدر "شارع الأعشى" قائمة المسلسلات الاجتماعية ذات الطابع الهادئ الرومانسي.
تدور أحداث المسلسل في نهاية سبعينيات القرن الماضي بين عائلات شارع الأعشى، وكعادة الروايات والقصص التي تتخذ من الشارع أو الحارة القديمة مسرحًا للأحداث تتربع قصص الحُب الرومانسية بتعقيداتها وتطوراتها صدارة المشهد ثم مربعات العلاقات الإنسانية والمصالح التي تحكم أهل الشارع ببعضهم البعض تبعًا للظرف الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي يغلف الفترة. وفي هذه الفترة التي يتناولها المسلسل- عام١٩٧٩ - ظهرت في المملكة السعودية الحركة الإرهابية التي قادها "جهيمان العتيبي" الذي أقنع أتباعه بظهور المهدي المنتظر وهو نسيبه "محمد عبد الله" وقام هو وجماعته بالهجوم المُسلَّح على الحرم المكي وقتل المدنيين المصلين في بيت الله الحرام.
هنا يظهر النَفَس الروائي في الأعمال الدرامية حيث نسجت الكاتبة "بدرية البشر" الخلفيات النفسية والجذور الاجتماعية للأشخاص المتقاطعين مع هذا الحدث، وبخاصة هؤلاء الذين دفعهم النبذ المجتمعي للانضمام لجماعة العتيبي -كما هو حال "براء عالم" - أو سعد في شارع الأعشى- الذي يبحث لنفسه عن مدخل للثأر من ذلك الرفض الذي تعرض له مُتَمَثِّلا في رفض أهل محبوبته "عواطف" تزويجها له.
شاهدنا ذلك العرض والتشريح لنفسية ودوافع الشخصية الإرهابية الخارجة على الدين والمجتمع في أعمال مصرية كــ "شارع المواردي" و"الضوء الشارد" و"العائلة" و"الإرهابي" وغيرها الكثير.. وللغرابة كان التشريح النفسي لشخصية المُنشَقّ على المجتمع مختلفًا في كل عمل لكنك في كل مرّة ترى بقعة الضوء التي بداخله رغم ما يفعله وما يصير إليه، وهذه أيضًا براعة مشرط الروائي حين يقرر الغوص في نفوس شخصياته وعرض مُبرراتها ودوافعها ومعتقداتها.
لكنني في الحقيقة لم أتوقع أن يتعرض عمل سعودي باعتراف وشجاعة للمعاناة التي تسببت فيها هذه الأفعال الإرهابية بالتوازي مع عرض الأفعال الإجرامية التي تبناها الإرهابيون في تلك الفترة من تكسير لمحلات شرائط الكاسيت ومضايقات للمارة في الشوارع من النساء بدون محرم بل ومهاجمتهنّ في الأسواق حتى لو كُنّ من البائعات اللاتي تجرين على كسب الرزق.
الموسيقى التصويرية البديعة للمُلحن السوري "رضوان نصري" تعدّ بابًا ومدخلًا أساسيًا للعمل لا يمكننا تجاهله أو فصله حيث تشعر وكأنك تجلس في مجلس السامر ذات مساء تسمع الشِّعر والنيران تشتعل أمامك بالحطب أو أنك تتأرجح وتستشعر الهدهدة فوق الجَمَل الذي يحملك. طاقم الإخراج التركي اعتمد على البساطة والمباشرة؛ فخرجت المشاهد قريبة وغير مبالغ فيها وغير استعراضية بإمكانيات التصوير الباهظة.
الأدوار في "شارع الأعشى" مختارَة بحرفية شديدة مما دفعني للبحث خلف بعض الأسماء التي ربما أراها للمرة الأولى من شدة ما لمست من مهارة في الإداء. "ريم الحبيب" لولا أنني شاهدت حلقتها سابقًا مع الإعلامي أنس بوخش لصدّقتُ أنها تلك الأم الخمسينية أو الستينية على أقصى تقدير "أم جزّاع". كذلك "باسل الصلي" و"لمى عبد الوهاب" وحتى الوجه المصري الجديد "يوسف عمر" كلها كانت أسماء مستخدمة في أماكنها تمامًا وأعتقد أن جزءًا كبيرًا من هذه المهمة تمّ بسهولة بسبب وضوح ملامح الشخصيات التي وضعتها الكاتبة "بدرية البشر" في روايتها.
هذه هي خلطة المكونات البسيطة التي ينجذب إليها المُشاهد العربي الذي تُوَحِّدُه الكثير من الأسس الثقافية والتقاليد المجتمعية، تلك المعادلة التي تعتمد على التفاصيل المغرقة في المحليّة رغم التباين الواضح في التفاصيل المعيشية لكنها تتوحد في الاهتمامات الإنسانية والمخاوف والمهددات وحتى مساحات الأمل والتطلع إلى المستقبل.
