السياسي – سوشيال ميديا 2: من إدارة دولة إلى إدارة بروفايل
انتهى زمن الوسطاء! صار السياسي يتسلل إلى هاتفك مباشرة، ويقتحم خلوتك على فيس بوك وإنستجرام، لقد أزاح المؤسسات الإعلامية التقليدية جانبا، وصار يخاطبك كأنه صديقك الحميم! هذا الانقلاب الرقمي أفرز سلالة جديدة ومرعبة من السياسيين.
كان الخطاب السياسي التقليدي يتحدث عن المؤسسات والبرامج والسياسات، أشياء مملة لكنها جوهرية، أما اليوم؟ فيديو للسياسي وهو يلعب مع كلبه، صورة له وهو يطبخ العشاء لعائلته، تغريدة عاطفية عن طفولته البائسة! لم يعد السياسي ممثلا لمؤسسة بل تحول إلى شخصية استعراضية تشاركك تفاصيل حياتها الشخصية كأنها "ريالتي شو"! المؤسسات تتهاوى، بينما يتضخم "الأنا" السياسي إلى حدود مرضية!
السوشيال ميديا حولت الأخبار إلى سيل هستيري لا يتوقف، وحياتنا السياسية إلى سباق محموم نحو النسيان! ما عاد أحد يتذكر قصة الأسبوع الماضي لأن ترند اليوم أكثر إثارة! والسياسي الذكي يستغل هذه الثغرة في وعينا الجمعي، فصار خطابه مرتبطا باللحظة الراهنة فقط، لا ماض يحاسب عليه، ولا مستقبل يخطط له.
العامية السياسية إسفاف براجماتي
انتهى زمن الخطاب المؤسسي المنمق! البساطة والمباشرة هما سر النجاح السياسي اليوم، وفي كثير من الأحيان، البساطة تعني السطحية، والمباشرة تعني الفجاجة! هذا التحول لا يقتصر على تغيير في الأسلوب، بل هو انقلاب عميق في العلاقة بين السلطة والجمهور، فأصبح التواصل مع الناس يعني مجاراتهم في أدنى مستويات الخطاب، لا الارتقاء بهم إلى مستويات أعلى من الوعي والتفكير!
لم تعد الكاريزما السياسية تعتمد على الخبرة السياسية أو الرؤية الاستراتيجية، بل أصبحت مرتبطة بالقدرة على إثارة المشاعر والانفعالات اللحظية. فالشخصية المؤثرة سياسيا اليوم هي التي تستطيع أن تحشد الغضب، أو تثير الضحك، أو تدغدغ مشاعر الحنين والنوستالجيا عند الجماهير.
أزمة الهوية السياسية: المواطن المستهلك للسياسة
في العالم الرقمي، تحولت العلاقة بين السياسي والشعب من علاقة تمثيلية (السياسي يمثل المواطن) إلى علاقة استهلاكية (المواطن يستهلك المحتوى السياسي). وهذا التحول عميق في تأثيره على طبيعة النظام الديمقراطي نفسه.
أصبح الفرد مجرد مستهلك للمحتوى السياسي، يبحث عن الإثارة والتسلية، ولم يعد مشاركا فاعلا في صناعة القرار. وفي المقابل، تحول السياسي إلى منتج للمحتوى الترفيهي، همه الأول جذب الانتباه وزيادة المتابعين، لا تقديم حلول حقيقية للمشكلات الاجتماعية.
هل سألت نفسك: ما الثمن الحقيقي لهذا الترفيه السياسي المجاني؟ ثمنه هو وعيك المسروق، وقدرتك على التفكير النقدي، وإنسانيتك المختزلة إلى خوارزمية فيرال! لماذا تفتح للسياسي باب منزلك الرقمي، تسمح له بالوصول إليك في أي وقت، تتابع تفاصيل حياته اليومية كأنه نجم هوليوودي؟
التحدي الأكبر هو كيفية الحفاظ على جوهر السياسة كممارسة مؤسسية تسعى لخدمة الصالح العام، في عالم تحولت فيه كل مناحي الحياة، بما فيها السياسة، إلى محتوى رقمي قابل للاستهلاك والمشاركة والإعجاب. فبين إدارة الدولة وإدارة البروفايل، تقع مسؤوليتنا جميعا في إعادة رسم حدود العلاقة بين التكنولوجيا والديمقراطية، وبين الترفيه والسياسة، وبين الواقع وصورته.