السبت 15 مارس 2025
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

مقاول الأنفار وحارة السقايين

الثلاثاء 11/فبراير/2025 - 11:22 م

كما لو أن رفيقين متجاورين قد غادرا فراشيهما بمصحة للأمراض العقلية، وقررا معًا الفرار من المصحة النفسية التي ضجت بهما، ليعقدا مؤتمرًا يمارسان فيه الجنون والهلاوس والعواطف الجياشة كذلك.. تلك هي الصورة الأوضح لأحداث القاعة الشرقية بالبيت الأبيض، والتي استضافت المؤتمر الصحفي بين الرئيس الأمريكي المضحك دونالد ترامب ورئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، وقد تحولت القاعة إلى ما يشبه السيرك القومي، حيث توافد وصراع الجمهور من الصحفيين لتغطية الحدث الهام المتأخر عن موعده ساعة ونصف الساعة. 

وقد صدق حدس المتبارين للحاق بفقرات الكوميديا، حين استعرض المجنون العائد بفخر جمال السفارة الأمريكية جميلة بالقدس، ليفاجئ الجميع بعدها بقفزة بهلوانية حين تحدث عن قطاع غزة كمكان سيئ الحظ، ومن المهم البحث عن بدائل له لنقل سكان غزة إليها، فهناك الكثير من الأماكن، ليجدد الإشارة إلى مصر والأردن بثقة كبيرة في موافقتهما وبلدان عربية أخرى لاستقبال الفلسطينيين في أراضيها، بل وزاد بأن أمريكا سوف تتملك القطاع فالشريط الساحلي على البحر المتوسط، الذي يسكنه نحو مليوني فلسطيني يجب أن يصبح ملكا للولايات المتحدة، التي ستجعل منه ريفيرا الشرق الأوسط.

وعلى الرغم مما تبدو عليه تلك التصريحات المكررة من مادة للسخرية الواجبة بحق الصديقين الحميمين ترامب المتهم في عدد كبير من القضايا، ونتنياهو الصادر بحقه مذكرة اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية، غير أن الأمر يشير إلى خطورةٍ أكبر وقائمة، بل وإلى نية مبيّتة وقديمة بين الحليفين التقليديين أمريكا والكيان المحتل، للاستيلاء على الأراضي الفلسطينية كاملة، بعد التوسع في الضفة الغربية واحتلال مساحات من لبنان وسوريا، والحديث عن الأردن، ثم نقل الصراع إلى شبه جزيرة سيناء لتكون منطقة حروب وصراعات، ولن يعدم الكيان وحلفاؤه الذرائع للمناوشات بحجة الأمن أو ملاحقة المقاومة أو أي ذرائع أخرى، ومن ثم الانتقال إلى المراحل التالية وتغيير خارطة المنطقة والاستيلاء على مقدرات شعوبها. 

ولكن كما نقول كمصريين "على مين"، موجهة لمن يحاول بيع المياه في "حارة السقايين"، إذ تجدر الإشارة بالأساس وسط كل هذا العبث، إلى الموقف المصري التاريخي والرصين والصارم، بالنسبة للقضية الفلسطينية، وعلى جميع المستويات، والذي كان في الواقع دافعًا لمواقف عربية وإقليمية ودولية، فقد فطنت القيادة السياسية منذ البدايات لهذا المخطط الذي وأدته في مهده، بالمواقف والرسائل التي أكدها مجددا الرئيس القائد، في جميع المحافل ومع كبار القادة والزعماء الدوليين، وأنه لا يمكن أبدا، بأي شكل كان، أن يتم الحياد أو التنازل، وطمأنة الشعب المصري، بأنه لا يمكن السماح أو حتى التساهل في المساس بأمن مصر القومي، وأن حل القضية الفلسطينية، بل التحرك السليم لإحلال السلام بالمنطقة ليس إخراج الفلسطينيين من وطنهم وتهجيرهم قسرًا أو طوعًا، لأن ذلك ظلم يضاف إلى المظالم التي وقعت على الشعب الفلسطيني خلال سبعين سنة مرت، ولن ترضى به مصر بل لا يرضاه أصحاب الضمائر في العالم كله، لذلك أشار بحنكة إلى الإرادة الشعبية المصرية والرأي العام المصري، فشعب مصر بكل أطيافه لا يقبل ظلم أبناء الشعب الفلسطيني بتهجيرهم، ويعرف تماما حق الفلسطينيين التاريخي في أرضهم ووطنهم، كما يرفض أي مساس بأمن البلاد القومي. 

وهو الأمر الذي شدد عليه الدكتور مصطفى مدبولي رئيس مجلس الوزراء، خلال اجتماع الحكومة الأسبوعي، بمواصلة مصر جهودها لضمان التنفيذ الكامل لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة، بما، وتبادل المحتجزين والرهائن، كأهمية نفاذ المساعدات الإنسانية لسكان القطاع، الذين يعانون من أزمة إنسانية غير مسبوقة، كما أكد السفير أسامة عبد الخالق مندوب مصر الدائم في الأمم المتحدة، بأن مصر لن تتماهى أبدا مع تصفية القضية الفلسطينية وظلم الأشقاء الفلسطينيين، بل إنه أفحم مندوب الكيان المحتل، الذي تساءل عن سبب حاجة مصر إلى التسلح رغم غياب التهديدات، فأجابه السفير المخضرم بأن الدول القوية والكبرى مثل مصر تلزمها جيوش قوية وقادرة على الدفاع عن الأمن القومي بأبعاده الشاملة بتسليح كافٍ ومتنوع، وأن مصر أول من أرسى دعائم السلام في الشرق الأوسط، وهي ملتزمة بقضية السلام كخيار استراتيجي، لكنها قادرة على الدفاع عن أمنها القومي بجيش قومي وتاريخ يمتد لآلاف السنين، والعقيدة العسكرية المصرية دفاعية، كما أنها قادرة على الردع. 

ومن المفارقات أن يوجه مندوب الكيان مثل هذا السؤال، ولا يزال جيشه يتلقى حتى هذه الساعة الأسلحة الأمريكية وقد أكد البنتاجون منذ أيام بأن الخارجية الأمريكية أقرت بيع صواريخ للاحتلال بـ660 مليون دولار، لكن على أية حال فإن ما يعنينا هنا هو صوت مصر الواثق والرادع لكل من تسول له نفسه المساس بأمنها أو محاولة تصفية قضية الوطن كله القضية الفلسطينية.

هذا الموقف الذي تفهمته القوى الدولية والإقليمية، بل إن العقلاء قد أدركوا مغبة ما صرح به ترامب من تهديد للسلم ليس في المنطقة وحدها، بل قد تطال الاضطرابات العالم كله، وقد نتجه إلى حرب عالمية ثالثة، فكما أشارت أنالينا بيربوك وزيرة خارجية ألمانيا إلى أن فكرة طرد الفلسطينيين من غزة لن يكون فقط غير مقبول ومخالفا للقانون الدولي، بل سيزرع كراهية جديدة، ومن قبلها رفض فرانك شتاينماير الرئيس الألماني ما صرح به ترامب حول تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة انتهاك للقانون الدولي وغير مقبول، كما أنه لا يعتقد في أن المحادثات بين الدول العربية وواشنطن مع ترامب ستنجح على هذا الأساس. 

وتوالت ردود الأفعال الرافضة والمستهجنة من أيرلندا وإسبانيا والصين وإيطاليا وفرنسا وتركيا بل وبريطانيا ذاتها، وبالطبع واليقين التف الموقف العربي حول صوته الموحد، وقبلها توالت عاصفة الرفض العربية من الأردن والإمارات والسعودية، وكانت رسالة الأمير تركي الفيصل رئيس الاستخبارات العامة السعودية سابقًا، إلى "مقاول الأنفار" معبرة حيث قال فيها إذا كانوا - الفلسطينيون - سينتقلون من غزة، فيجب السماح لهم بالعودة إلى ديارهم وإلى بساتين البرتقال والزيتون في حيفا ويافا ومدن أخرى والقرى التي هربوا منها أو طردوا قسرا منها من قبل الإسرائيليين.

فيما نال ترامب نصيبه المعتبر من السخرية خارج أمريكا وداخلها، وعبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل المختلفة، خصوصًا بعد الهجوم على المحكمة الجنائية الدولية وتوقيع قرار تنفيذي بفرض عقوبات عليها، لأنها تستهدف من أسماهم حلفاء أمريكا، وقد طالب النائب بالكونجرس آل جرين بعزله، مؤكدًا بأن حركة عزل الرئيس قد بدأت بالفعل وسوف تكون شعبية وليس من أعلى لأسفل، ونصح نتنياهو بأن يشعر بالخجل، فالتطهير العرقي في غزة ليس مزحة.

تأتي كل هذه الأحداث لتعيد إلى العقلية والضمير العربي أهمية وحدة الصف عربيا، والالتفاف حول السياسة المصرية القوية والمستنيرة التي تتحرك بخطى واثقة، وتعرف كيف توجه رسائلها المبينة للمؤسسات الدولية كافة، وضرورة تكاتف الجميع لإعادة إعمار غزة وأنه لا مفر من العمل على إقرار السلام بالمنطقة، بإقامة دولة فلسطين المستقلة ذات السيادة وعاصمتها القدس الشرقية، وعدم التفكير في الاستيلاء على مقدرات شعوب المنطقة، وإنهاء الفكر الاستيطاني، فذلك فقط هو ما يضمن استقرار الشرق بل استقرار العالم كله.

تابع مواقعنا