إنسان ما بعد الانفتاح.. الحي السابع حكاية حائرين
مررت بفترة طويلة من فتور اتجاه القراءة، خاصةً الأعمال الروائية، حتى إنني زهدت في قراءة الروايات والقصص القصيرة، واكتفيت بالاطلاع على بعض المطبوعات الصحفية، إلى أن وقعت عيني على رواية «الحي السابع»، لـ نعيم صبري أحد حرافيش الراحل نجيب محفوظ، في البداية شدني غلاف العمل وجذبني الاسم، ثم بدأت في قراءة الكلمة الملحقة على ظهر الرواية، ما شجعني على اقتنائها والشروع في قراءتها.
بعد يوم تقريبا بدأت في قراءتها، ومنذ الصفحات الأولى لهذا العمل لم تشبع عيني من هذا الكم الهائل من الأفكار والمشاعر، كأن طوفانا ضرب قلبي وعقلي معا، أي صدقٍ هذا الذي ينساب بين صفحات العمل، صدق لا يستحي أن يكشف عن أسوأ ما في نفوس أبطال العمل، وما يخشاه الإنسان الطبيعي من مواجهته حتى أمام نفسه.
بداية لا تحلموا بعالم سعيد، والبشر لا يعرفون إلا التعاسة وبعضهم يتغذى على ذلك، كل فصل من فصول هذه الرواية والذي يحمل عنوان سِفْر: «سفر التكوين، سفر العودة، سفر الفجيعة، سفر التأسيس، سفر الأقدار، سفر التوازن، سفر السقوط، سفر التيه»، يروي حكاية رامي، شاب مصري في أواخر العَقد الرابع من عمره، وخلال أحدث العمل يصل إلى العقد الخامس، سافر إلى ليبيا في عهد السادات، ثم عاد إلى مصر بعد اغتياله عام 1981، حيث شهد التغيُّر الأيدولوجي وظهور القوى الرأسمالية التي استحوذت على كثير من مرافق الدولة آنذاك.
حينما يعود رامي إلى بلاده ويجد أن هناك شيئا مفقودا؟ فيجده الوطن، فأين ذهب بماضيه الجميل النقي؟ لمَن أصبح الآن؟ وأين ذهبت أخلاق الناس وضمائرهم.
هذا الرجل ينتمي إلى عائلة راقية ذات تاريخ وطني مشرف، إذ أن جده صلاح باشا كان عسكريا بارزًا ومخضرمًا في العهدين الملكي والجمهوري، وأمه إحسان هانم سيدة راقية، وفي منتهى النقاء، كأنها صفحة بيضاء لم تكتب بها كلمات البغض والحقد والأنانية، وهما يرمزان إلى العهود الماضية حيث كان الإنسان هو القضية، وليست حفنة من الأموال التي تعطي صاحبها أمانا أشبه بالمصيدة، ثم تنقض عليه بفكيها ممزقة إيه إربا، كما سنعرف لاحقا خلال قراءة العمل.
رامي شهد شتاتا فكريا وعاطفيا وبدنيا شتت بدنه لأنه عاش فترة في ليبيا ثم عاد إلى مصر واستقر بعمارة جده التي شيدها بالحي السابع في مدينة نصر، ثم سافر إلى إنجلترا مرتين، وكان يهرب أحيانا إلى الحانة لمقابلة أصدقائه المقربين أو يسافر إلى الإسكندرية إذا شعر أنه عاجز عن مواجهة أحد، أما قلبه، فإنه لم يكن إنسانا يبحث عن الحب صراحة، بل كان باحثًا عمَّن تروي ظمأه وتشبع الفراغ العظيم الذي اجتاح روحه، وربما لم يعد يجده في زوجته، أو ربما عجز عن فهم حقيقة الحب، وللأسف رامي جعل قلبه مطية للوهم والأنانية، فـ كارولين كانت تبحث عن رجل مكان زوجها، وسلمى كانت بصدق تحبه رغم أنها متزوجة من أخيه الأصغر، وتجد فيه فارس أحلامها، لكن حينما وُضِعت في اختبار وجدت أنها تظلم نفسها وأبناءها وزوجها، على حساب الأنانية، فاختارت التخلي عنه من أجل المبدأ، وهو للأسف كان قد غرق في براثن أعماله.
أما عقله، فأصبح مشتتا بين ماضٍ كان جوهره الشرف والأمانة استحال في هذا العصر -أي الثمانينيات- إلى ذرائع يصل بها الناس إلى غاياتهم التي هي في الغالب غير نبيلة!! في البداية يكون عازفا عن هذا كله، ولكن مع بضع صفحات فقط، يبدأ الوضع الجديد في التسرب إلى صدر رامي إذ تبدأ فكرة أن يستقل بذاته عن الحاج عبد الله الوارفي، رجل الأعمال الليبي، الذي عمل معه لسنوات في ليبيا، تلح عليه كثيرا، حتى يحدث الأمر ولكن لا يكتفي رامي بفكرة تركه بل يسعى إلى أن يكون له مشروعه الخاص، والعائق هو المال إذ أنه لا يملك المال الكافي، لكن ويا للعجب يحصل عليه بمعجزة من القدر.
تدور فكرة الرواية حول تأثير عصر الانفتاح ووصوله إلى أعلى مراحله ثمانينيات القرن الماضي، ليس فقط على الاقتصاد والسياسة، بل على الإنسان عموما كيف أظهر شخصيات مثل: الفهلوي الذي يجيد ألاعيب الكلام مثل لمعي، أو الجشع الذي لا يهمه إلا نفسه فقط، مثل حسني، أو المغترب الذي يكتسب قيم الغرب ويجد مجتمعا يستقر به مثل يوسف صديق رامي.
وبالإشارة إلى الانفتاح الاقتصادي الذي أعلنه الرئيس السادات عام 1974، فيجدر الإشارة إلى أن الانفتاح صاحب معه تغيرا في البنية الفوقية للمجتمع، إذ ظهرت نزعة استهلاكية لدى الناس، وبدأ الناس يفترقون إما يمينا متطرفا أو يسارا متطرفا، وساعد هذا رجال الأعمال على التوغل في الحياة السياسية بكل بساطة، مما نتج عنه شيوع المحسوبية والفساد، وانتشار الأنانية ظنًا أنها جزء من الفطنة والذكاء، حتى صار الناس في صراع وهمي مع بعضهم البعض.
رامي بطل الرواية ومحورها الذي تدور حوله بقية المحاور، بالرغم أنه كان إنسانا مسكينا لم يسعَ إلى إيذاء أحد إلا نفسه، فقد كان في غفلة، ربما كان يجب أن يجد الصوت الذي يخيره، إلا أنني أحسست أن رامي كان مسيرا للجحيم الذي كتبه له مؤلف الرواية، وحينما يعلن انهزامه، يستسلم رامي لليقين الذي راوده في آخر صفحات العمل.
لا يمكنني أن اعتبر الحي السابع رواية سريالية أو عبثية أو عدمية، بل هي رواية جريئة وصفت الواقع في أعلى مراحله ودرجاته دون تجميل، حذرت الإنسان من أن الأنانية تلتهم صاحبها، ولكن هناك سؤال يطرق ذهني بالرغم من أن كثيرا من شخصيات العمل -إن جاز لنا الوصف- كانوا آثمين أو خطائين، فلماذا هم نجوا ورامي هو الوحيد الذي هلك؟!